بقلم : د/مسلك ميمون
حين كنا نتجول ذهابا و إيابا على (كورنيش) أكادير استوقفنا سائح فرنسي فسألنا بعض الأسئلة عن أماكن في المدينة فأخبرناه. و ما مشينا إلا خطوات حتى استوقفتنا سيدة انجليزية و زوجها فسألتنا عن قصر الصناعة التقليدية فأخبرناها. فالتفت إلي صاحبي و قال :
- أعجب لهؤلاء السياح، يأتون بلادا غريبة عنهم دون أن يتعلموا كلمة واحدة.
فقلت لصاحبي ساخرا :
- أو ما رأيت أعجب من هذا أننا نتكلم لغات الآخر و نهمل لغتنا فمن منا الأفضل هم الذين تمسكوا بلغاتهم فجعلوها لغات عالمية تدرس في مختلف الأقطار و مختلف الجامعات و المعاهد بفضل اختيارهم للتكنولوجيا مذهبا، وسياسة التصنيع ممارسة، و ضروب الخلق و الإبداع نهجا, و فتح الآفاق و التشجيع أسلوبا؟ أم ترى نحن و وضعنا البائس لا نملك أنفينا و لا لغتنا و هي أشرف اللغات, و نبذل جهدا لتعلم لغة الآخر لنحاوره في أمور تهمه؟
- أشعر أنك تريد أن تثير قضية اللغة, و أن تجعل منها قضية سياسية كدأبك دائما؟
- اللغة قضية وطنية سياسية بامتياز, و الذي يجادل في هذا فهو يخالف الدستور و مبدأ المواطنة, و عليه أن يبحث له عن وطن آخر و جذور أخرى.
- أوافقك الرأي, و لكن ألا ترى أن المسألة اللغوية عندنا معضلة حقيقية.؟
- إذا كنت تقصد التنوع اللغوي : بين عربية و أمازيغية و حسانية و عامية…فذلك لا يفسد للود قضية, و كل شعوب الدنيا لها لهجات, بل هناك من تملك أكثر من لغة رسمية أنظر الهند مثلا, و لكن التعايش قائم رغم ذلك. و الكل يعتز بهذا الثراء و يحافظ عليه. أما إذا كنت تقصد أننا أمام هذا التنوع اللغوي لا نملك شيئا يذكر بمقياس الفعل و الممارسة و الواقع فأنت محق. فاللغة الرسمية للبلاد (العربية) أصبح لا يجيدها و بتكلمها بطلاقة, و يكتبها بيسر و سلاسة إلا النخبة المهوسة بالثقافة و الأدب… و البقية الباقية تتعثر في تركيب جملة.
- لعل الأمر يعود أن العربية عندنا لغة كتابة و ليس لغة تعبير و كلام, لهذا تطغى العامية؟
- اللغة وجدت للكلام و الكتابة, و الاستعمال غير الواعي يحولها هكذا أو هكذا, أنظر و تأمل معي, ألم تكن العبرية عند اليهود نسيا منسيا قبل الأربعينيات من القرن الماضي؟ ألم يكن فقط يتكلمها ربيوهم و كهنتهم لصعوبتها و غرابتها؟ فماذا حيث؟ حين كونوا دولة, أيقنوا ألا دولة بدون لغة رسمية. و هم الشعب المشرذم الذي تجمع من كل حدب و صوب. فعادوا إلى لغتهم و بعثوها من جديد, فنقحوها و هذبوها و لم يضيرهم شيئا أن يستفيدوا من قواعد العربية بحكم أنها ابنة عم للغتهم بل ذهبوا أبعد من ذلك فبسطوا القواعد, و الخط, و النطق فأصبحت في فترة وجيزة لا تتعدى النصف قرن لغة العلم و التكنولوجية, بل لغة أدق أنواع العلم, كالعلوم النووية. و فوق هذا و ذاك لغة شعب, لا تجد إسرائيليا لا ينطقها, بل ماذا أقول ها هي الآن تدرس في كلياتنا في إطار اللغات السامية و هناك بحوث لطلبتنا في إطار هذه اللغة و آدابها…أما نحن فينقصنا يا صاحبي الإرادة السياسية. و من أوجب واجباتها, أن المسؤول لا يحتل مسؤوليته في قطاع من قطاعات الأمة إلا إذا كان يتقن لغتها أولا لأنه في منصب القدوة و المثال و ما عندنا هو العكس, قد يتقن لغات أجنبية, و يتلعثم في لغته و يأتي بالأخطاء الفظيعة !!
- ألا ترى أن سياسة التعليم عندنا تساهم في التأخر اللغوي؟
- حين نقول الإرادة السياسية يصبح التعليم تابعا و ليس منفصلا و ما هو في تعليمنا الآن : من تخلف, و لا واقعية و لا هدف… يتطلب محكمة وطنية لهذه الوزارة, لقد أصبح التعليم و منذ عشرين سنة خلت في تقهقر رهيب, و أصبح في عهد الوزير المالكي تعليما بلا جدوى فلا مجال للحديث عن اللغة إن كان التعليم بلا هدف يخوض فيه الخائضون و كأنه قطاع خاص.
- و لكن لابد من حل. إن الضعف اللغوي أصبح علة العلل الاجتماعية. تصور أن ابني الأكبر جاءني منذ أيام يطلب مني أن أساعده على كتابة طلب وظيف و أنت تعلم أنه مجاز في الحقوق. أليس هذا من وجوه الكارثة التعليمية؟ !
- هنيئا لوزيرنا بابنك المجاز !! أسباب المحنة يا صاحبي إن شئت تعدادها فهي كثيرة … و لكن مرجعها كلها للإرادة السياسية المنعدمة فقل لي بربك : من يسمح لقناة 2M أن تكون فرنكوفونية أكثر مما هي مغربية؟ من يسمح لساساتنا و وزرائنا أن يخاطبوننا عبر الشاشة باللغة الفرنسية؟ من يسمح للإشهار و أنواعه أن يكون بالفرنسية؟ من يسمح بالمطبوعات الإدارية أن تكون بالفرنسية رغم وجود مذكرة في الموضوع؟ من يسمح بالأفلام الأجنبية أن تبث لغتها و لا يعرب حوارها و لو كتابة في الأسفل؟ من يضع برامج أطفالنا في البعثات الفرنسية و الأجنبية في المغرب و يصر أن تدرس العربية بدون شكل؟من..من…؟؟؟
- هل يفهم من إصرارك على اللغة الوطنية, أن لك موقفا من اللغات الأخرى؟
- أبدا. بل أريد للمغربي أن يتقن أكثر من لغة و خاصة اللغات الحية العالمية و لكن ليس على حساب لغته الأم. أتدري كنت يوما في البنك فجاءني رجل أمي طلب مني أن أملأ له (شيكا) ففعلت, فنظر الرجل (الشيك) و قال لي : بماذا كتبته؟ قلت بالعربية, فاندهش و قال : بالعربية !! لقد ضيعت لي (الشيك) و لا أملك غيره, فلن يصرف أبدا.
فنصحته أن يضعه عند صاحب الصندوق و ينتظر فذهب مترددا, و حين صرف (الشيك) عاد إلي و هو يقول : و الله لقد صرف الشيك و لو بالعربية. !!
هذا الرجل أمي و قد نلتمس له الأعذار, فماذا نقول عن رجل (مثقف) جمعتني به ندوة علمية فقال لي : هل أتدخل بالعربية أم بالفرنسية؟ فقلت له على الفور : بالعربية أحسن, فقال : و لكن هناك أجنبي في القاعة فسكت و تدخل الرجل بالفرنسية و للأسف كانت فرنسية ركيكة جدا حتى تمنى الجميع أن يسكت, و كأني به شعر بذلك فعاد يتكلم بالعربية و يا هول ما سمعنا منه من أخطاء في الرفع و النصب و أخطاء أخرى لا تحصى ! أذكر منها قوله : (و هناك فرق بين التعبيرتين) و هو يريد التعبيرين, ثم تدخل آخر فجاء (بكوكتيل) من العربية و العامية و الفرنسية و تدخل الرجل الأجنبي و كان مستشرقا, فتكلم بلغة عربية فصيحة شدت إليه الأنظار و الأسماع…و أنا واثق وثوقا تاما لو شاء لتكلم بلغته فأجاد و كل المتتبعين عندنا لجلسات البرلمان, يذكرون ذلك البرلماني الذي تحدث عن حالة الطرق في منطقته فقال : و بتكرار عجيب (إن الطرق في حالة لا يرثى لها ! ) و هو يريد (يرثى لها) أو ذلك الزعيم السياسي الذي كتبت له كلمة ليلقيها فقال : (و القدس الشريف أول قبلة للمسلمين و…) و ذلك بضم القاف! و حدث في هذا و لا حرج…
- هذا أمر مزعج !! هذا أمر يبعث على الأسف. !!
إن فرنسا احتراما للغتها تضع غرامة لكل من كتب ورقة إدارية أو راسل وزارة أو مؤسسة بلغة أجنبية و اسبانيا تعتز بلغتها حتى لا تجد فيها من اللغات إلا الاسبانية في جميع المرافق إلا بعضها القليل الذي يستوجب ذلك كالسياحة. أما عندنا فالأمر مختلف, إذ أصبحت اللغة الأخرى لغة الثقافة و علامة المثاقفة. فكيف للمواطن أن يشعر بالعزة و الكبرياء الوطني, و هو ينظر إلى لغته باستخفاف و إهمال و يعتز بما عند الآخر؟؟ فذلك ما جنته علينا سياسات الفرونكوفونيين و الاستلابيين و ماسحي أحذية الاستعماريين.
- حين أسمع كلامك هذا أشعر أنك لا تجد حس المواطنة في البعض؟
- المواطنة التزام يا صاحبي و ليست لعبة تلعبها, أو حلبة نتحلى بها أو حتى عملية إراثة و توريث. الكثير هم مغاربة بالإراثة, كما الكثير هم مسلمون بالإراثة, و لا هذا معربي و لا ذاك مسلم إذا لم يستجيبا للالتزام المنوط بهما و من أوجب واجبات المواطنة أن تكون مواطنا صالحا, و صلاحك لن يتم إلا بوفائك لخصوصيات هذا الوطن, و من خصوصياته اللغة, لأنها إحدى دعائمه السياسية القوية و إحدى سماته المميزة…
- أجدك تركز على اللغة العربية, مع أنك تقر بالثراء اللغوي المغربي.
- اللغة العربية أولا هي اللغة الرسمية للبلاد, و الدستور ينص عليها, و ثانيا هي لغة الدين و التعبد, فإن كان أسلافنا تعلموها و علموها حتى أصبحت ما هي عليه فلأنهم أدركوا قيمتها و شرفها و خصوصيتها و إيثار الله لها, فلا يحق التنكر لها شرعا و مواطنة و بأي ذريعة من الذرائع, أما باقي اللغة و اللهجات المغربية فهي منا و إلينا و لا مناص لها عنها و لا خيار, فهي وعاء آثارنا و ثقافتنا, و منبت جذورنا و عثرتنا, و ماضي أسلافنا, و حقب تاريخنا, و كل ذلك هو منا و إلينا, و لا نكون مغاربة إلا به.
- و لكن ألا ترى معي أن الطفل المغربي, قد يشق عليه أن يجمع بين العربية, و الأمازيغية و العامية و لغة أو لغتين أجنبيتين كالفرنسية و الانجليزية أو الاسبانية…
- تلك حقا معضلة تربوية ينبغي الإقرار بها, ففي الوقت الذي نجد الطفل الأوربي يتعلم لغته الأم و لغة أوربية من اختياره, نجد الطفل المغربي يحشو رأسه الصغير بكل هذه اللغات, و ذلك حتما سيكون على حساب قدراته و إمكاناته في مجالات أخرى في نطاق التعليم و هذا ما دعاني لأطالب بمحاكمة وزارة التعليم, التي عطلت قدرات أبنائنا, بوفرة المقررات و تضارب المناهج, و غياب الأهداف و الغايات… الشيء الذي جعل التعليم ركاما للحشو, بدون نفع و لا فائدة, إلا في تخريج فيالق العاطلين و العاطلات !!
- ذلك ما أعانيه مع الولد, الإجازة في الحقوق, و لا حقوق!!.