مستقبل المغرب غدًا… امتحان بين الوعي وسلطة المال والجهل، من سينتصر؟

بقلم: ذ. إبراهيم أبهوش – صحفي مغربي|

تعالت في الأسبوعين الأخيرين بعض الأصوات الحاقدة على شباب اليوم، ممن اختاروا لأنفسهم تسمية “جيل زيد”، وكأنهم غرباء عن هذا الوطن أو طارئون على تاريخه. والحقيقة أن هؤلاء الشباب هم أبناؤنا وإخواننا، ومنهم عائلاتنا، يحدوهم الأمل في أن يروا وطنهم في المقدمة، في الريادة، وفق المؤشرات العالمية في الصحة والتعليم والشغل والإنتاج والصناعة والتقدم والازدهار. وهذا ليس عيبًا، بل حق مشروع لهم وللوطن.
إنهم يؤمنون بأن الاستثمار الحقيقي يبدأ بالعنصر البشري، وبثروات الوطن الطبيعية، وبإرادة جماعية لا تُقصي أحدًا ولا تُرهن المستقبل للولاءات أو الحسابات الضيقة.
جيل “زيد” من الشباب المغربي ليس قطيعة مع الماضي، بل امتداد حيّ للأجيال التي صنعت تاريخ هذا الوطن، من مقاومة الاستعمار إلى بناء الدولة الحديثة، ومن نضالات الحقوق إلى معارك الإصلاح. من يشكك في شباب اليوم، وفي مدى قدراته ووعيه وكفاءته ومكانته في بناء مغرب الغد الذي سيبدأ باستحقاق 2026، فهو مخطئ في التقدير. لأن التشكيك في هذا الجيل هو تجاهل لحقيقة تاريخية تتشكل أمامنا: جيل “زيد” لم يعد هامشيًا ولا عابرًا، بل أصبح فاعلًا رقميًا، ميدانيًا، ومؤسساتيًا. من يشكك في قدراته، يخطئ في قراءة التحولات العميقة التي طرأت على الوعي السياسي والاجتماعي لدى الشباب المغربي. هؤلاء لا يكتفون بالاستهلاك، بل ينتجون الخطاب، ويقودون النقاش، ويصوغون المطالب، ويحتجون بذكاء، ويخاطبون الدولة بلغة الحقوق، بلغة المطالب الدستورية والحقوق المشروعة.
جيل “زيد” هو من نظّم الاحتجاجات، ونسّقها عبر الهواتف الذكية، ووجّه رسائل واضحة بلغة المطالب الدستورية والحقوق المشروعة، وفرض نفسه كرقم صعب في المعادلة الوطنية. وإذا كان قادرًا على تعبئة الشارع، فهو أقدر على تعبئة صناديق الاقتراع، وعلى تحويل الغضب إلى فعل مؤسساتي. من يظن أن هذا الجيل لا يملك الكفاءة، فهو لم يقرأ جيدًا كيف تحوّلت أدوات التواصل إلى أدوات بناء، وكيف أصبح الهاتف اللوحي منصة للتعبئة، لا للتسلية. الرهان على جيل “زيد” ليس مجاملة، بل ضرورة تاريخية. لأن مغرب الغد، الذي سيبدأ باستحقاق 2026، لا يمكن أن يُبنى بعقلية الأمس، ولا بنخب منهكة، بل بشباب واعٍ، يملك الجرأة، والقدرة، والرؤية.
في ظل تصاعد احتجاجات الشباب وتنامي الغضب الشعبي من أداء المكون الحكومي، تتجه الأنظار إلى محطة 2026 بوصفها لحظة فاصلة في تاريخ المغرب السياسي. وإذا كانت الانتخابات في السابق تُختزل في سباق حزبي موسمي، فإنها اليوم تحوّلت إلى معركة حقيقية بين الوعي والمال والجهل، معركة ستُحدّد من يكتب تاريخ المستقبل: هل هم المواطنون الواعون، أم أولئك الذين يبيعون أصواتهم ويتركون مصيرهم يُدار من خارج إرادتهم؟
أعتقد أن من يظن أن المقاطعة موقف محايد، يساهم دون أن يدري في إعادة إنتاج نفس الوجوه ونفس السياسات. فالأرقام التي أفرزتها انتخابات 2021 تكشف أن الأغلبية الجاهلة، لا الصامتة، هي من صنعت النتيجة. من أصل 25 مليون مواطن مؤهل، لم يصوّت سوى 8.7 مليون، بينما بلغ عدد المقاطعين 16.4 مليون. ومع ذلك، حصل الحزب الأول على 102 مقعد فقط بـ2.1 مليون صوت، أي أقل من 10% من مجموع المؤهلين. فماذا لو قرر فقط 3 ملايين من هؤلاء المقاطعين أن يصوّتوا بوعي؟ ألن يكونوا قادرين على قلب الموازين وفرض حكومة جديدة تعكس تطلعات الشعب بدل أن تُفرض عليه؟
لقد همّشت الأحزاب السياسية الشباب، وكسرت الثقة بينه وبين مؤسسة الحزب، حين أصبح معيار اختيار المرشح مرتبطًا بقدرته على تمويل حملته الانتخابية، لا بكفاءته أو رؤيته. وحين يغيب المواطن الواعي بحقوقه وواجباته بسبب عجزه عن تغطية نفقات الترشح، يحضر الفاسد. ومن يبيع صوته، يبيع كرامته، ويمنح الفساد تفويضًا للتحكم في مصيره ومصير أبنائه. لا تبيعوا أصواتكم، ولا ترهنوا مستقبلكم. فالانتخابات القادمة ستكون بيد من يملك المال أو من يجهل قوته، إن لم يتحرك الوعي الشعبي.
ومع ذلك، لا يمكن الحديث عن مستقبل المشاركة السياسية دون التوقف عند الدور الحيوي الذي يُفترض أن تضطلع به الأحزاب الوطنية في احتضان هؤلاء الشباب، وتأطيرهم، وفتح المجال أمامهم داخل هياكلها التنظيمية. فالأحزاب ليست مجرد أدوات انتخابية، بل مؤسسات دستورية يفترض أن تُجدد نفسها من الداخل، وتُعيد بناء جسور الثقة مع الجيل الجديد. إن تمكين الشباب من التعبير والمبادرة داخل الأحزاب هو المدخل الحقيقي لإصلاح الحياة السياسية، وتجاوز منطق التهميش الموسمي. وإذا كانت بعض الأحزاب قد تراجعت عن هذا الدور، فإن اللحظة التاريخية تفرض عليها أن تستعيد وظيفتها التأطيرية، وتُراهن على الكفاءة بدل الولاء، وعلى الفكرة بدل التمويل.
وبهذا المنطق، يتم منح فرصة جديدة للمتاجرين بمستقبل البلاد والعباد، ويُفتح الباب أمام من يسيطرون على مقدرات الوطن بالمال، ويدفعون به نحو مزيد من الارتهان للمؤسسات المالية الدولية، في وقت بلغت فيه المديونية مستويات مقلقة، رغم حصول المغرب على وضع متقدم ضمن بلدان الاتحاد الأوروبي، وهو وضع لم يتحول بعد إلى مكتسبات تنموية ملموسة.
ألا يجدر بنا أن نلتقط الإشارات المتكررة التي ما فتئ جلالة الملك يبعث بها، داعيًا إلى تجديد النخب، وتفعيل المؤسسات، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتمكين الشباب من المساهمة في بناء مغرب جديد؟ أليس من العبث أن تبقى هذه الدعوات حبيسة الخطابات، في غياب من يترجمها إلى فعل سياسي ومؤسساتي؟ أليس من واجبنا أن ننتقل من الاحتجاج إلى البناء، ومن الغضب إلى التأثير؟
إذا كانت قوة جيل “زيد” تكمن في قدرته على مخاطبة الهاتف اللوحي، وفي التخطيط للنزول إلى الشارع في مختلف الجهات، فليُظهر هذه القوة في توعية الناخبين بعدم بيع أصواتهم أولًا، ثم في توظيف التكنولوجيا لبناء مغرب الغد من خلال المؤسسات، والحضور السياسي القوي، والمشاركة الواعية في صياغة القرار. وإذا انتصر الوعي على سلطة المال، فإن الفاسدين الذين يستمرون في السياسة بالمال سيتعبون، وسينهار نموذجهم القائم على شراء الولاءات والتلاعب بالإرادة الشعبية.
يتعين على الشباب أن ينخرطوا في توعية الناخبين بعدم بيع أصواتهم أولًا، لأن هذه هي نقطة البداية الحقيقية لانتصار الوعي على سلطة المال. وبهذا المنهج، سيتم إرهاق الفاسدين الذين يستمرون في السياسة بالمال، ويتاجرون بمستقبل البلاد والعباد، ويُعاد رسم معالم المشاركة السياسية على أسس أخلاقية ومؤسساتية.
جيل الفعل لا الغضب هو الجيل الذي لا يكتفي بالغضب، بل يحوّله إلى فعل. أنتم من سيصحح الأخطاء المتراكمة، ويعيد رسم ملامح الدولة الاجتماعية التي يستحقها المغاربة. أنتم من سيقود حكومة إصلاح حقيقية، لا حكومة شعارات، حكومة تضع الصحة والتعليم والتشغيل في صدارة الأولويات، وتفتح جبهات المحاسبة في وجه الفساد والإفساد، داخل مؤسسات الوطن، لا خارجها.
وسيكون من مسؤوليتكم أيضًا أن تبنوا اقتصادًا قويًا منتجًا، لا اقتصادًا هشًا مرتهنًا. كما يُنتظر منكم أن تعيدوا الاعتبار للعدالة المجالية، وتقضوا على التفاوت الطبقي الذي مزّق النسيج الوطني، وعمّق الإحساس بالحيف والتهميش. أنتم من سيحوّل التكنولوجيا من وسيلة للتعبير إلى أداة للتغيير، ومنصات التواصل إلى منصات تعبئة سياسية واعية.
المشعل رهن اشارتكم، استلموه من أجل رقي وازدهار الوطن…
نامل ذلك صادقين،لأن الوطن لاينتظر، بل يستحق من يحمل المشعل ويصنع الفرق.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)