بقلم: ذ. إبراهيم أبهوش-صحفي مغربي |
الذين يجهلون أو يستغربون ظهور جيل Z المغربي، ليس عليهم أن يستغربوا، فهذا الجيل لم يولد في فراغ، ولم يسقط من السماء، بل هو امتداد تاريخي حيّ لمن سبقه، إنه استمرار لجيل السيبة والفتوة في زمن الفاقة والمجاعة والحاجة، الذي عاش زمنًا بلا مركز، ثم لجيل المقاومة الأولى، الذي واجه الاستعمار بالسلاح والوعي، ثم لجيل التأسيس الوطني، الذي كتب وثيقة المطالبة بالاستقلال، ثم لجيل بناء الدولة والانقلابات، والتمرد، والتناوب، والحراك، والدسترة، وصولًا إلى جيل الذكاء الاصطناعي والقيادة الغائبة. جيل Z المغربي، هو ابن هذا التاريخ، وحفيد تلك اللحظات. لا يطلب شرعية من أحد، لأنه يحملها في وجدانه، ولا ينتظر إذنًا من جهة، لأنه يتحرك بمنطق الوعي الجماعي، لا الزعامة الفردية.
ولأن الأسئلة الحارقة لا تفارق وجدان هذا الجيل، فقد تحرك من كل إقليم وجهة، وقارن بين حيّه وحارته، وزقاقه وشوارعه، فضاءاته ومرافقه، مستشفياته ومدارسه، جامعاته وحدائقه، مسكنه ومأكله، ملبسه وعمله، وحتى عطالته، بما يراه في مدن مجاورة، وأقاليم أخرى، وجهات من وطنه نفسه. ثم مدّ نظره أبعد، ومن هاتفه اللوحي، قارن بين حكومات دول أخرى، بين سياسات التشغيل والتعليم والصحة والنقل والعدالة والكرامة. عاش وتفرّج، وسكن وجدانه الأمل في أن نصبح مثل تلك الدول، أو أحسن منها. ومع ذلك، ظل السؤال معلقًا: ماذا ينقصنا؟ ونحن نحمل تاريخًا مشرقًا، مشرفًا، توارثناه عن آبائنا وأجدادنا، بكل ما فيه من مقاومة واستقلال وبناء وتضحيات.
غير أن استقالة الآباء والأمهات من التربية القيمية فتحت الباب أمام انتشار التفاهة، وسادت الميوعة، وتراجعت منظومة الأخلاق، وتحوّلت بعض المنصات إلى ساحات للفراغ والابتذال. فكان لا بد من بديل، يحارب التفاهة وسياسة الالهاء، في وقت، تجاهلت فيه الحكومة نداءات الشعب، وتعامت عن صرخاته المتكررة… الغلاء أرهق الأسر، والعطالة في ازدياد، والأفق مسدود، بعدما صمت الآذان، وتراجعت القدرة الشرائية، وتآكلت الثقة في السياسات العمومية. لم يعد المواطن يطلب امتيازًا، بل يطالب بحقوقه الأساسية: تعليم يليق، وصحة تحفظ الكرامة، وعمل يضمن الاستقرار، وسكن لا يُذلّ. ومع ذلك، اختارت الحكومة أن تراكم الخطابات، وتعيد إنتاج نفس النماذج التي فشلت مرارًا.
وفي سياق متصل، كانت الجهوية المتقدمة وعدًا مؤسسيًا كبيرًا بديلا عن مركز القرار، علّقت عليه الأجيال القريبة آمالًا في تحقيق الإنصاف المجالي، وتحرير الطاقات المحلية، وتوزيع الثروة بذكاء. لكن ما تحقق فعليًا لا يرقى إلى حجم الانتظارات، الميزانيات تبخرت، والمشاريع تعثرت، والجهات لم تنجح في تدبير مواردها بمنطق التخطيط الخلاق، ولا برؤية واضحة، ولا بتنزيل رفيع ينعكس على حياة الساكنة، فتحوّلت الجهوية إلى واجهة شكلية تُدار غالبًا بمنطق الولاءات لا بمنطق الكفاءة، وغابت عنها روح الابتكار والجرأة في التغيير.
وفي ظل هذا الإخفاق، استقالت النخب من أدوارها التأطيرية، وتراجعت الأحزاب عن وظيفتها التمثيلية، وتوارى الإعلام خلف أجندات تجارية أو سلطوية وتغاضت عن اخلاقيات المهنة، واستقال الآباء والأمهات من التربية السياسية، فكان لا بد من بديل. ذلك البديل لم يكن حزبًا جديدًا، ولا حركة منظمة، بل كان جيلًا: جيل Z المغربي، الذي لا يشتغل بمنطق الزعامة، بل بمنطق القيادة الجماعية الغائبة، ويعتمد على الذكاء الاصطناعي، والحماية السيبرانية، ويؤمن بأن القائد الظاهر هدف محتمل، بينما الجماعة الافتراضية لا تُستهدف.
جيل اليوم يمثل ثلث سكان المغرب تقريبا، لا يعيش على هامش الزمن، بل في قلبه… يقرأ، يتعلم، يتاجر إلكترونيًا، يدفع فواتيره، ويفعل كل شيء يؤطر ويتواصل بلمسة زر. من حقه أن يرى وطنه في رخاء وازدهار وتطور دائم، وأن يفخر به، لا أن يعتذر عنه. ومن حقه أيضًا أن يؤمن بالمؤسسات، لا بالأشخاص، وأن يراها تعمل لا تتعطل، تحمي لا تهيمن، وتخدم لا تتسلط.
وهذا الجيل لا يثور على الوطن، بل يثور من أجل الوطن ضد من يستغلون ترواث الوطن واستنزاف مدخراته ، يرفض أن يُختزل في صورة نمطية، أو يُقاس بمعايير قديمة. إنه جيلٌ يطالب بالكرامة لا بالامتياز، بالعدالة لا بالشفقة، وبالمؤسسات لا بالأشخاص. جيلٌ لا يطلب أن يُحتضن، بل أن يُحترم. وإذا كان الماضي قد علّمنا أن لا نثق في الوعود المجردة، فإن المستقبل يفرض علينا أن نربط المسؤولية بالمحاسبة، وأن نعيد تعريف المناصب لا كامتيازات، بل كأعباء وطنية، فلتُؤخذ المناصب بمسؤولية، ولتُمنح المكاسب بمحاسبة، ولتسقط المفاسد، ويبقى حب الوطن بثوابته هو الأصل الذي لا يُساوم عليه، ولا يُرهن في صفقة.
جيل Z المغربي هو ذاكرة تتحرك، وضمير يتكلم، ومستقبل يُكتب الآن، فهل نحن مستعدون للاصغاء لهذا الجيل ؟ أم سنواصل تجاهله حتى يكتب تاريخه وحده؟
نأمل ذلك، بصدق لايساوم عليه.
تعليقات ( 0 )