بقلم: ذ. إبراهيم أبهوش – صحفي مغربي|
في لحظة سياسية دقيقة انتظرها الشعب المغربي قاطبة، على ضوء الاحتجاجات التي أطلقها شباب الجيل Z خلال الأسبوع الماضي، جاء الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح البرلمان يوم 10 أكتوبر 2025 ليضع حدًا لحالة الترقب، ويُعيد ترتيب الأولويات الوطنية على قاعدة المسؤولية الجماعية. أعتقد أن هذا الخطاب لم يكن مجرد تقليد دستوري، بل تدخلًا مؤطرًا في الزمن السياسي، يُوقظ المؤسسات من سباتها، ويستنهض همم الشباب، ويوجه الرأي العام نحو مغرب جديد لا يُبنى من فوق، بل يُصاغ من إرادة شعبية واعية ومسؤولة.
بادر الملك في مستهل الخطاب، إلى تحميل الجميع مسؤوليات واضحة: الحكومة، البرلمان، الأحزاب، الإعلام، المجتمع المدني، وحتى المواطن العادي. وإذا كان تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية هو الرهان المصيري الذي لا يحتمل التأجيل، فإن التعبئة الجماعية تظل السبيل الوحيد لتجاوز منطق الشعارات الظرفية والوعود الموسمية، نحو سياسات عمومية مؤطرة بالنتائج والالتزام.
لو أن الخطاب اكتفى بالتوجيه، لكان مجرد إعلان نوايا، لكنه مارس نقدًا مؤسساتيًا صريحًا، مستخدمًا عبارات دقيقة مثل “إعادة النظر”، و”التفعيل الأمثل والجدي”، و”محاربة الممارسات التي تُضيّع الوقت والجهد”، وهي إشارات واضحة إلى وجود خلل في الأداء العمومي، وإلى ضرورة تصحيحه دون مواربة أو تسويف. أكيد أن هذا الاعتراف لا يُضعف الخطاب، بل يمنحه قوة أخلاقية وسياسية، ويُحوّله إلى تعاقد وطني جديد يُطالب بنتائج ملموسة لا شعارات مؤجلة.
لن نبالغ إذا قلنا إن الخطاب تعامل مع نبض الشارع بوعي مؤسساتي، دون انزلاق إلى الشعبوية أو المجاملة العاطفية. فقد خاطب الاحتجاجات باعتبارها تعبيرًا مشروعًا، لكنه شدد على ضرورة تأطير المواطنين، والتعريف بحقوقهم وحرياتهم، واعتبر ذلك مسؤولية جماعية تشمل كل الفاعلين، وفي مقدمتهم الإعلام الذي تراجع عن أدواره التنويرية، واكتفى في كثير من الأحيان بنقل الخبر دون تفسيره، أو بمجاراة الإثارة بدل بناء الوعي.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية الصحافة الوطنية، التي دعاها الخطاب إلى أن تكون منصة للتنوير والمساءلة، لا مجرد قناة للترويج أو التبرير. الإعلام مطالب اليوم بأن يُعيد تعريف وظيفته، وأن يتحول من ناقل سلبي إلى فاعل ديمقراطي، يُفسّر السياسات، ويُقرب المؤسسات من المواطن، ويُحفّز المشاركة بدل الانسحاب ويحارب التفاهة بدل تشجيعها ويقدم خدمة مجتمعية تنوير للرأي العام بدل التغاضي عن نشر الأخبار الزائفة أو الترويج .
وإذا كان الخطاب قد خاطب الجميع، فإنه وجّه رسائل خاصة إلى شباب الجيل Z، الذين يجدون أنفسهم اليوم أمام دعوة ضمنية للانخراط، لا للتفرج. حين يتحدث الملك عن العدالة المجالية، عن المناطق الهشة، عن فرص الشغل، عن التعليم والصحة، وعن ضرورة تغيير العقليات، فهو يتحدث عنهم، وعن مستقبلهم، وعن ما ينتظرهم من أدوار. الخطاب لم يمنحهم امتيازًا رمزيًا، لكنه منحهم فرصة واقعية: أن يكونوا جزءًا من الحل، لا مجرد موضوع في النقاش.
جيل Z، الذي اعتاد أن يُنظر إليه كفئة غاضبة أو منسحبة أو رقمية أكثر من اللازم، بات اليوم أمام لحظة اختبار. حين تُفتح أبواب السنة الانتخابية، فذلك لا يعني فقط صناديق الاقتراع، بل يعني أيضًا صناديق الأفكار والمبادرات والمواقف والمساءلة. الملك لم يعد يطلب من الشباب أن يصبروا، بل يطلب من الجميع أن يُفعّلوا، أن يُغيّروا، أن يُحاسبوا، أن يُشاركوا. وهذا يتطلب من الجيل الجديد أن يتجاوز منطق الانتقاد من الخارج إلى منطق الفعل من الداخل، وأن يُعيد تشكيل ميزان القوة، لا أن ينتظر تدخلًا من فوق كلما تعطلت المؤسسات.
جيل شباب Z المغربي أعطى النموذج الحي للعالم بأنه شباب واعٍ ومتنور، ومسؤول عن مستقبل الوطن والاتصال القادم بين الأجيال. ومنه، سيبرهن للعالم بعد الخطاب الملكي أنه قادر على الانخراط الإيجابي والمسؤول في بناء مغرب الغد، بوعي ومسؤولية، وفي إطار مؤسساتي يُراكم ولا يهدم، يُصلح ولا يشتكي، يُشارك ولا ينسحب.
وإذا تجاهلنا هذه الدعوة أو تعاملنا معها ببرود، فقد تكون لذلك تبعات محفوفة بالمخاطر، ليس فقط على مستقبل الديمقراطية، بل على استقرار النموذج التنموي برمّته. فاستمرار عزوف الشباب عن المشاركة السياسية يُضعف شرعية المؤسسات، ويُفرغ العمل الحزبي من مضمونه، ويُحوّل الفعل العمومي إلى دائرة مغلقة لا تعكس تطلعات الجيل الجديد. لذلك، فإن على شباب الجيل Z أن ينخرطوا بوعي ومسؤولية في الفعل السياسي، من خلال الأحزاب القائمة، أو عبر التفكير الجدي في تأسيس تنظيم شبابي جديد، يُعبّر عنهم، ويقود التغيير من داخل المؤسسات، لا من خارجها. مغرب الغد لا يُبنى بالاحتجاج وحده، بل بالفعل السياسي المنظم، الذي يُشيد ويُصلح ويُراكم، في إطار المؤسسات الدستورية، وبروح وطنية تؤمن بأن الإصلاح لا يُمنح، بل يُنتزع بالمشاركة والمساءلة.
وفي ختام الخطاب، جاءت الآية الكريمة: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره”، ولم تكن مجرد تزكية روحية أو تعبير إيماني عابر، بل جاءت لتُضفي على الخطاب بعدًا أخلاقيًا عميقًا، وتُرسّخ فلسفة دقيقة للمحاسبة الفردية والمؤسساتية. إنها دعوة إلى أن تكون المؤسسات مرآة للعدل، وأن يكون المواطن فاعلًا لا متفرجًا، وأن يُدرك الجميع أن الإحساس الزائف بأن مجرد الاحتجاج كافٍ لتحقيق التغيير دون المرور عبر الأدوات الدستورية، قد يُفضي إلى منزلقات أخطر بكثير، خاصة حين تتجاوز تلك الممارسات الميثاق الدستوري الذي يوحّد الشعب ويحتكم إليه. المغرب الذي يريده الملك هو مغرب يُرى فيه الخير ويُحاسب فيه على الشر، ولو كان بمثقال ذرة، في إطار من المسؤولية المشتركة والمساءلة المؤطرة بالقانون.
وبهذا الخطاب، أعاد الملك ضبط الإيقاع الوطني. فتح أبواب السنة الانتخابية، لا ليُوزّع الفرص، بل ليُحمّل المسؤوليات. لم يُغلق باب الاحتجاج، لكنه فتح باب المشاركة. لم يُعفِ المؤسسات من النقد، لكنه دعا إلى إصلاحها من الداخل، لا انتظار إنقاذها من فوق. وفي هذا السياق، يظل الملك ضامنًا لاستمرار الدولة ووحدة الأمة، لا باعتباره طرفًا سياسيًا، بل باعتباره مرجعية دستورية تؤطر اللحظة الوطنية وتحمي التوازنات الكبرى حين تختل.
المطلوب اليوم هو تحريك الأحزاب، والإعلام، والمجتمع المدني، والنقابات، والهيئات المهنية، والجامعات، وكل القوى الحية، لتكون أدوات فعل لا أدوات شكوى. فالخطاب واضح، والفرصة قائمة، والمسؤولية مشتركة. والملك، كما أظهر هذا الخطاب، لن يكون عقبة في وجه التطلعات الديمقراطية، بل سيظل حكمًا فوق السلط، وضامنًا لوحدة الأمة واستمرار الدولة، شريطة أن نمارس حقنا وننهض بواجبنا، في إطار الميثاق الدستوري الذي يوحّدنا ويحتكم إليه الجميع.
وفي المحصلة، فإن الانخراط الجماعي، كلٌّ من موقع مسؤوليته، بات ضرورة وطنية لاستكمال رسالتنا في التنوير والتأطير والتوجيه، سواء في الإعلام أو في الأحزاب، في المجتمع المدني أو في المؤسسات التربوية، في النقابات أو في الهيئات المهنية. فبناء مغرب الغد ليس مهمة جهة واحدة، بل هو ورش جماعي مفتوح، يتطلب وعيًا مواطنيًا، وانخراطًا مسؤولًا، وترافعًا مهنيًا يُحصّن المكتسبات ويُراكم الإنجازات، في إطار الميثاق الدستوري الذي يوحّدنا ويحتكم إليه الجميع.
تعليقات ( 0 )