بقلم: ذ. إبراهيم أبهوش، صحفي مغربي|
تعيش مبادرة الحكم الذاتي المغربية لحظة مفصلية في مسارها السياسي والدبلوماسي، إذ تحظى منذ تقديمها سنة 2007 بدعم متزايد من المنتظم الدولي، باعتبارها حلاً واقعيًا وعمليًا لإنهاء النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية. ويأتي هذا الزخم ضمن دينامية أممية متسارعة، حيث تتجه الأنظار إلى قرار مجلس الأمن المرتقب في نهاية أكتوبر الجاري، وسط مؤشرات على تغييرات وشيكة في طبيعة مهمة بعثة المينورسو، التي قد تتحول من مجرد مراقبة ميدانية إلى دور مساعد في تفعيل وتنزيل المبادرة المغربية.
جاءت إحاطة المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، ستافان دي ميستورا، لتؤكد هذا المنحى، إذ أبرزت أن المبادرة المغربية تحظى بتأييد واسع من الدول الأعضاء، باعتبارها أساسًا واقعيًا لحل سياسي دائم. كما أشار تقرير الأمين العام أنطونيو غوتيريش إلى ضرورة تجاوز الجمود السياسي، داعيًا الأطراف إلى الانخراط الجاد في مفاوضات دون شروط مسبقة. ووفق مصادر دبلوماسية، فإن المغرب يُعد نسخة محدّثة من مخطط الحكم الذاتي، بإشراف مباشر من وزير الخارجية ناصر بوريطة، وبتنسيق مع شركاء دوليين، تأخذ بعين الاعتبار التقسيم الترابي المعتمد منذ سنة 2016، وتوسع في مبدأ الجهوية المتقدمة، عبر تحديد مستويات الصلاحيات في قطاعات حيوية كالتعليم والصحة، وتدبير السياسات العمومية، إلى جانب معالجة قضايا اللاجئين والمحتجزين في مخيمات تندوف، والترتيبات الأمنية المرافقة لتنزيل الحكم الذاتي ضمن السيادة المغربية.
بالموازاة، تعمل الولايات المتحدة على إعداد مشروع القرار المتعلق بتمديد ولاية بعثة المينورسو، بينما يواصل دي ميستورا جولات مكوكية بين الرباط والجزائر وباريس وموسكو وتندوف، لاستقراء مواقف الأطراف وتحديد مساحات التقارب الممكنة. وتظل موسكو، الحليف التقليدي للجزائر وعضو مجلس الأمن الدائم، عنصرًا حاسمًا في مخرجات التصويت المرتقب بالنظر إلى امتلاكها حق النقض، مما يستدعي من الدبلوماسية المغربية تكثيف جهودها لإقناعها بأن تحذو حذو باقي أعضاء المجلس، وتتفادى استخدام الفيتو، بما يُسهم في إنهاء هذا النزاع المفتعل الذي أضاع على المغرب أكثر من خمسين سنة من الزمن التنموي.
ورغم هذا التوجه الدولي المتنامي، لا تزال الجزائر وصنيعتها جبهة البوليساريو ترفضان المبادرة المغربية، في موقف يتناقض مع منطق الحل السياسي الأممي القائم على التفاوض والتوافق. فهل يمكن الاستمرار في الحديث عن حل أممي في ظل رفض طرف أساسي لأي مقترح واقعي؟ وهل يُعقل أن تبقى الأمم المتحدة رهينة لمواقف جامدة لا تعكس التحولات الجيوسياسية ولا مصالح شعوب المنطقة؟
على المستوى الداخلي، تبرز مفارقة صارخة تتعلق بفعالية تنزيل السياسات العمومية في الأقاليم الجنوبية. فرغم ضخامة الميزانيات المرصودة لتنمية الجهات الثلاث، لا تزال مؤشرات التنمية البشرية دون المستوى المطلوب. فقد كشفت المندوبية السامية للتخطيط في مذكرتها لشهر شتنبر 2025 أن الفقر المدقع ما يزال قائماً، حيث يعيش عدد كبير من المواطنين على أقل من دولارين وخمسة عشر سنتًا يوميًا، رغم أن الدخل الإجمالي المتاح للفرد تضاعف منذ سنة 2000. كما أشار تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي إلى أن الاستثمار العمومي لم يُحدث الأثر المنتظر على جودة الحياة، داعيًا إلى تحسين حكامة المشاريع وتوسيع مشاركة الفاعلين المحليين في صياغة السياسات العمومية، بما يضمن ملاءمتها مع حاجيات الساكنة وخصوصيات المجال.
في ضوء هذه المعطيات، تبرز الحاجة إلى مساءلة تجربة المجالس المنتخبة، الجهوية والإقليمية والترابية، التي تُسير من طرف أبناء المنطقة. فهل استطاعت هذه المؤسسات تحقيق استقلالية نسبية عن الدعم المركزي؟ وهل نجحت في استقطاب الاستثمار وخلق فرص الشغل؟ وهل وفرت بيئة اجتماعية ملائمة من حيث الصحة والتعليم والبنية التحتية؟ هذه الأسئلة لا تنفصل عن واقع الحراك الاجتماعي الذي يشهده المغرب، والذي يطالب بمزيد من العدالة المجالية والتمكين المحلي، خاصة في المناطق ذات الحساسية الاستراتيجية.
وإذا كان المغرب يسعى إلى تفعيل نموذج الحكم الذاتي بإرادة ملكية سامية، وفي إطار استشاري شامل مع المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية (الكوركاس)، فإن التجربة التاريخية تُظهر أن القوة المستعمرة السابقة كانت ذكية في التعاطي مع الساكنة المحلية، حيث عملت على إدماج ممثلين صحراويين في البرلمان الإسباني وفي مؤسسات استشارية، ما منحها آنذاك هامشًا من الشرعية الشكلية. وقد جسد المغرب هذا المعطى في منح الساكنة المحلية امتيازات تنموية لتدارك ما فاتها من خيرات في إطار حقوق المواطنة، وهو ما يفرض إعادة التفكير في آليات التمثيلية، ليس فقط عبر الانتخابات الوطنية، بل من خلال إشراك الإنسان الصحراوي قبليًا في تدبير الشأن المحلي، بما يضمن احترام البنية الاجتماعية ويُعزز الانتماء الوطني من داخل النسيج القبلي نفسه.
وفي هذا الإطار السياسي المحلي، جسدت مداخلات الوفد المغربي من المنتخبين وفعاليات المجتمع المدني ، ومداخلة السيدة النائبة البرلمانية ليلى داهي، المنتخبة عن جهة العيون الساقية الحمراء، والرئيس الشريف مولاي إبراهيم، رئيس جماعة السمارة، نماذج حية لمسؤولين صحراويين يُدبرون فعليًا شؤون الساكنة المحلية في إطار المؤسسات الوطنية. ويُثبت هذا الحضور السياسي أن تجربة الحكم الذاتي ليست مجرد مشروع تفاوضي، بل ممارسة قائمة منذ سنوات. غير أن هذه التجربة، رغم أهميتها، تحتاج إلى انفتاح شامل يراعي الخصوصية القبلية والاجتماعية، قصد تشجيع باقي المكونات، خاصة في مخيمات تندوف، على العودة إلى حضن الوطن الأم والانخراط في إنجاح هذا المشروع الوطني المدعوم أمميًا.
ومع اقتراب استحقاقات 2026، تزداد الحاجة إلى أن تأخذ الدولة المغربية بعين الاعتبار أهمية إشراك كل القبائل الصحراوية بمختلف مكوناتها في هذا الاستحقاق الوطني الجامع، مع حث الأحزاب السياسية على احترام هذا المعنى الديمقراطي الحقيقي، دون إقصاء أي راغب في المشاركة السياسية بسبب التزكية الحزبية. فالتمرين السياسي لا يكتمل إلا بتحقيق الإنصاف والمصالحة والاندماج الشامل بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، في التمكين والحضور السياسي.
وعليه، فإن نجاح مشروع الحكم الذاتي يُقاس بمدى قدرته على إقناع المواطن الصحراوي، واستقطاب المكونات القبلية، وبناء نموذج جهوي يُراعي الخصوصية الثقافية والاجتماعية ويُعزز الثقة في المؤسسات المحلية والجهوية والوطنية. فالمعركة الحقيقية اليوم ليست دبلوماسية فقط، بل تنموية وتمثيلية، تتطلب من الدولة إعادة هندسة أدواتها التدبيرية، وتوسيع دائرة المشاركة، وتحقيق تراكم ميداني يُقنع المواطن قبل المجتمع الدولي.
في هذا الإطار، تبرز أهمية الاستثمار في الإنسان الصحراوي، ليس فقط كمستفيد، بل كفاعل ومقرر ومراقب، يُسهم في صياغة مستقبل جهته، ويُعبّر عن تطلعاتها، ويُدافع عن مصالحها داخل المؤسسات الوطنية والدولية. كما أن إشراك النخب الصحراوية الشابة، والنساء، وممثلي المجتمع المدني، يُعد ضرورة استراتيجية لضمان استدامة المشروع، وتوسيع قاعدته الاجتماعية، وتحصين شرعيته من الداخل.
إن الحكم الذاتي المغربي، وهو يدخل مرحلة التفعيل السياسي والمؤسساتي، يحتاج إلى رؤية شاملة تُزاوج بين الواقعية الدبلوماسية والنجاعة التنموية، وبين التمثيلية القبلية والمواطنة الدستورية، وبين الإنصاف المجالي والعدالة الاجتماعية. فهل ينجح المغرب في تحويل هذا المشروع من وثيقة تفاوضية إلى تجربة ديمقراطية متكاملة؟ وهل تُترجم استحقاقات 2026 هذا التحول في التمثيلية والقرار المحلي؟ وهل تُصبح الأقاليم الجنوبية نموذجًا يُحتذى به في باقي جهات المملكة؟
الجواب لا يكمن في الخطابات، بل في السياسات، وفي قدرة الدولة على الإنصات، وفي استعداد المجتمع على الانخراط، وفي نضج النخب على القيادة، وفي وضوح الرؤية على المستوى المحلي والجهوي والوطني. فالحكم الذاتي ليس امتيازًا ظرفيًا، بل خيارًا استراتيجيًا لثورة الملك والشعب ضد كل من يسعى إلى تقسيم أو تجزيء وحدة الوطن.
—
تعليقات ( 0 )